أبي مصطفى محمود .. الحلقة الثالثة
الحلقة الثالثة :
من قصة حياة الدكتور مصطفى محمود كما ترويها ابنته .. أمل ...
يمر شريط الذكريات سريعا لا يمهلنى لاسترجاع المشهد لأستمتع مرة أخرى باللحظات الجميلة التى عشناها سويا عندما كنت أنعم بحبك وحنانك أشاركك أفراحك وأتراحك مرحك وعزلتك.
...
كأنه قطار يمضى بسرعة مذهلة رافضا الوقوف فى أى محطة.. ولكنى سأقف به فى مكان جميل تحبه كثيرا يا أبى وكان نزهتك المفضلة.. شارع النيل بالعجوزة حيث شجر الكافور وعبير الكافور الذى يذكرك بالجنة وأنهارها وثمارها متعك الله بها يا أبى وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
كنا نجلس على شاطئ النيل وتقطف بعض أوراق الكافور تقسمها ليخرج شذاها الرائع وأنت تشرح لنا كيف أن الجنة بها أنهار تشبه هذه الرائحة الخلابة ولكن أروع بكثير ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. ولمضاعفة إحساسنا بالسعادة كنت تقوم بإحضار أنواع فاخرة من الشيكولاتة التى نحبها ونأكلها سويا باستمتاع وأنا أسبح معك فى الخيال وأشاركك الحلم أننا فعلا فى الجنة.. كان هذا فى بداية السبعينيات من القرن الماضى.. ولا أدرى هل كانت أبواب السماء مفتوحة ليتحقق حلمك يا أبى فى السكن أمام نهر النيل وشجر الكافور فى نفس المكان الذى وصفته بالجنة.. إذ بوالدتى تطلب من أبى ضرورة تغيير المسكن فالمكان أصبح مزدحماً جدا وغير ملائم وأمامه فرصة لتحقيق حلمه للسكن فى المكان الذى نذهب إليه للتنزه واللهو.. عمارة جديدة على النيل وصاحبها الحاج سيد لا يأخذ خلواً.. أى متدين ويخشى الله.. سيأخذ سنة مقدما من الإيجار فقط.. تردد قليلاً لكن عندما دخل الشقة ونظر من البلكون قال هذه غرفتى هنا مكان الكرسى الهزاز وفى الداخل المكتبة الاستديو ولتوفير الهدوء والعزلة للعمل باب الغرفة هذه المرة ضخم ومنزلق لتتحول الغرفة فعلا لصومعة لا يسمع أى شىء يحدث فى الخارج.
لتصبح الغرفة مؤهلة لما ينتظرها من خلوة مع الكتاب والقلم والأوراق.
أقف بالقطار فى المغرب فهى من الرحلات الجميلة التى سعد بها أبى كثيرا.. وكم حكى لنا عن روعة المكان وأهله وعمقه التاريخى والدينى وطيبة أهل هذا البلد الكريم وحبهم للشعب المصرى.
ووصفه للملك الحسن رحمه الله.. المثقف الفنان.. فهو محب لجميع أنواع العلوم والفنون.. وكان حريصا على أن يجمع حوله كوكبة من العلماء والأدباء والفنانين من جميع أنحاء الوطن العربى داوم على الاتصال بهم لمتابعة كل جديد على الساحة الأدبية والعلمية.. ومن المفارقات الجميلة ومقالب بابا التى لا تنسى ونحن ننتظره فى المطار عند عودته من المغرب ولكن هذه المرة طال الانتظار وبدأنا نقلق الطائرة حضرت وكل الركاب وصلوا ولكن بدون أبى كيف؟ نسأل المسئولين. هل كل الركاب وصلوا بسلام؟ يردون بالإيجاب.. استبد بنا الخوف والقلق وبدأنا نجوب المطار صعودا وهبوطا فى كل مكان.. صالة الوصول والانتظار نبحث فى كل الوجوه حتى أضنانا البحث وجلسنا بجوار رجل مغربى يرتدى زيهم الشهير يضحك بجوارنا بصوت عال.. يا إلهى هذه الضحكة أنا أعرفها جيدا ولكن لا أصدق! أبى بجوارنا طوال الوقت وتركنا نلف وندور وندوخ وهو يقول لى بسخرية كده برضه يا خبيزتى مش عارفة أبوكى؟! ضحكت وأنا أعاتبه إنت متنكر يا بابا وناوى على المقلب.. وعدنا للمنزل بعد يوم شاق لكن مرح لحظات السعادة والفرحة والضحك من القلب قليلة.. ولكن ما هى السعادة؟ ما هو مصدرها؟ وأسمع صوتك يا أبى وأنت تقول لى: «مصدرها القلب وليس الجيب.. السعادة تنبع من الضمير ومن علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالله وهى فى أصلها شعور دينى وليست شعورا ماديا.
وهى تنبع من إحساس الإنسان بأنه ليس وحده وأن الله معه، وأن العناية تحوطه والإلهام الخير يسعفه.. وأنه يقوم بكل واجباته فينعم برضى المولى عز وجل الذى ينعكس عليه فيرضى عن نفسه.
ولنتأمل هذه الآية الكريمة: «ولسوف يعطيك ربك فترضى» إذن الرضى هو باب السعادة والدليل أننا نجد مليونيراً يمتلك بواخر وطائرات ينتحر.. إذن فهو تعيس أى غير راض عن نفسه فى الوقت الذى نجد الراهب الذى يعيش على الكفاف يضىء وجهه بسكينة وسعادة ورضا.. والصوفى الذى اعتزل الناس ويناجى ربه عندما يسأل عن السعادة يقول نشعر بلذة وسعادة لو علمهما الملوك لقاتلونا عليهما.
فالسعادة ينعم بها الذى يؤمن بأن للكون خالقاً عادلاً رحيماً وأننا خلقنا فى هذه الحياة لهدف ومعنى وحكمة ولم نخلق عبثا.. وتحضرنى مناقشة أخرى يا أبى فى الجبر والاختيار.. الخير والشر.. الطاعة أو السقوط فى شرك المعصية.
ومتى يكون الحكم على الإنسان أنه طيب أو شرير فيرد على أبى ويقول إن النفس لا تظهر منزلتها ولا تبدو حقيقتها إلا لحظة أن تستقر على اختيار.. وتمضى فيه باقتناع وعمد وإصرار وتتمادى فيه وتخلد إليه.. وتستريح وتجد ذاتها.. ولهذا لا تؤخذ النفس بما فعلته وندمت عليه ورجعت عنه.. ولا تؤخد بما تورطت فيه ثم أنكرته واستنكرته فإن الرجوع عن الفعل ينفى عن الفعل أصالته وجوهريته ويدرجه مع العوارض التى لا ثبات لها.
وقد أعطى الله الإنسان ساحة كبيرة من المنازل والمراهب يختار منها علوا وسفلا ما يشاء. أعطاه معراجا عجيبا يتحرك فيه صاعدا هابطا بلا حدود.. ففى الطرف الصاعد من هذا المعراج تلطف وترق الطبائع وتصفو المشارب والأخلاق وذلك هو الجانب الروحى من تكويننا. وفى الطرف الهابط تكثف وتغلظ الرغبات والشهوات وتتدنى الغرائز حتى تضاهى الحيوان فى بهيميته ثم الجماد فى جموده وآليته وقصوره الذاتى.. ثم الشيطان فى ظلمته وسلبيته وذلك هو الجانب الجسدى الطينى فى التكوين الإنسانى.
وبين معراج الروح صعودا ومنازل الجسد والطين هبوطا تتذبذب النفس منذ ولادتها، فتتسامى من هنا وتتردى من هناك بين أفعال السمو وأفعال الانحطاط ثم تستقر على شاكلتها وحقيقتها.
ومتى يبلغ الإنسان هذه المشاكلة والمضاهاة بين حقيقته وفعله فإنه يستقر ويتمادى، ويمضى فى اقتناع وإصرار على خيره أو شره حتى يبلغ نهاية أجله.
استوقفته لأسأله: وكيف يكون لنا حق الاختيار وهناك من هم من أهل الجنة وآخرون حق عليهم العذاب ومن أهل النار؟ فيرد أبى بابتسامة هادئة كأنه يطمئننى: هذا العلم الربانى ليس علم إلزام ولا علم قهر، بل هو علم حصر وإحاطة، فاعله بهذا العلم لا يجبر نفساً على شر ولا ينهى نفساً عن خير فهو يعلم حقائق هذه الأنفس على ما هى عليه دون تدخل.. وذلك علم سابق عن النفوس لا يتاح إلا لله وحده لأنه وحده يعلم السر وأخفى فهو بحكم علمه التام المحيط يعلم أن هذه الحقيقة المكنونة فى الغيب التى اسمها فلان والتى مازالت سرا مستتراً لم يكشفه الابتلاء والاختبار بعد.. والتى لم تولد بعد ولم تنزل فى الأرحام يعلم ربنا تبارك وتعالى بعلمه المحكم المحيط أن تلك النفس لن تقر ولن تستريح ولن تختار إلا كل ما هو نارى شهوانى سلبى عدمى، ونفس أخرى تتسم بالعطاء والعبادة والعفو والتسامح سيكون اختيارها نورانيا، فالله هو العدل المطلق.
لذا فالحقائق النارية تسكن النار والحقائق النورانية تسكن الجنة فلا قسوة ولا وحشية وإنما وضع لكل شىء فى مكانه.. وأختم بدعاء واستغاثة بخط يده من الأدعية التى تمتلئ بها نوتة تليفوناته وأوراقه وكتبه:
يا كريم يا عفو يا رحيم يا تواب يا غفار يا ستار يا عظيم أتوسل إليك يا إلهى افعل بى ما أنت أهله. ولا تفعل بى ما أنا أهله.
ما وجودى إلا بكلمة منك.. وما حياتى إلا أيام أقترضها بإذنك.. إلهى وربى ومولاى أستغيث بك منك. وأهرب منك إليك أقسمت يارب بقلة حيلتى وبعظيم حاجتى فلا موجود بحق سواك.. ولا إله إلا أنت ولا حق إلا أنت ولا فاعل إلا أنت ولا قادر إلا أنت ولا موجود بحق إلا أنت.. أنت الخالق الوارث وأنت المبدئ المعيد
..
من كتاب : أبي لأمل مصطفى محمود
تعليقات
إرسال تعليق