تابع بحث مصطلحات النقد الأدبي
المصطلح/ الأثر
ما من شك في أن للمصطلح دوراً أساسياً وفاعلاً في تكوين المعرفة، وأن أية ثقافة كانت، لن تنهض ويستقيم صرحها، إلا إذا أفلحت في إنتاج معرفة خصبة وجديدة، توجهها اصطلاحات واضحة للدلالة. وفي الحال نفسه فإن ثقافة أية أمة من الأمم، تقوض وتفكك بالنظر لعدة أسباب أهمها اضطراب دلالة المصطلح وتكاثر المصطلحات وتعارض مفاهيمها وعدم استقرارها.
وعليه، فللمصطلح دور كبير في حياة الناس، وهو الذي ينظم التواصل بينهم، في شتى ميادين النظم والعمل، لأن المفاهيم ترسخ في الأذهان بحسب الكلمات المتفق عليها لدى الناس أجمعين.
ولسنا نحن العرب وحدنا من يحتاج إلى المصطلح بلغته، بل إن الكثرة الكاثرة من لغات العالم تفتقر إلى ما تفتقر إليه اللغة العربية من ألفاظ فنية تدل على المعاني والأعيان المستحدثة33. لأن الغزو اللغوي ظاهر في كثير من البلدان. يحمل في طياته غزواً ثقافياً من خصائصه وتنميطاً للأفكار والمفاهيم والعادات والسلوكيات، ويخضع للغزو الصناعي الذي تقوم به الدول المتقدمة وتخضع لـه الدول النامية.
وغني عن القول، أن بعض الدارسين ـ فيما أوردوه من تحديدات للمصطلح، يقرنون بين المصطلح والمفهوم وفي ذلك ما أورده بعضهم ترجمة عن جون ولسون J.Wilson حيث أشار أن "المصطلح هو تعيين مفهوم ما في شكل حروف أو أرقام أو كتابة رسم أو تأليف ما من هذه العناصر" 34 ومن خلال ذلك رأوا أنّ للمصطلح علاقة وطيدة مع المفهوم. وفي ضوء ذلك، اقترحوا تحديداً قوامه أن المفاهيم ليست هي المصطلحات، لأن المفاهيم هي بمنزلة مقولات أو فئات أو مجموعات تسمح بتصنيف الوقائع ضمن مفاهيم ومقولات محدودة جداً والمصطلح غير ذلك.
ونظراً للدور الرئيس في البنى المعرفية، فإن الحقول المعرفية تظل تتحدد دائماً بتحديد دلالات مصطلحاتها واستقرار مفاهيمها، وبقدر رواج المصطلحات وشيوعها وتقبل الباحثين والمهتمين لـهذا المصطلح أو ذاك، يحقق العلم أو "الحقل المعرفي" ثبات منهجيته 35.
ثم إن اللغة العربية مثلما لم تواجه الحاجة إلى المصطلح للمرة الأولى في هذا العصر، بل سبق لـها أن واجهت هذه الحاجة في القرن 2 هـ، في عصر ازدهار الترجمة أيام العباسيين. لأن العرب، آنذاك أيام الرشيد والمأمون لم يخطر لـهم التنبه أن يهجروا لسانهم، الذي كانوا يعتزون به أيما اعتزاز فصاحة لفظ وروعة بيان، ليطلبوا العلوم التي وجدوها متقدمة، قياساً على ما كانت عليه عندهم، بإحدى اللغات التي كانت تلك العلوم مدونة بها كاليونانية والفارسية والهندية، كما فعل بعض العرب في العصر الحديث الذين توهموا ومازالوا أن لغتهم تضيق بالعلوم المعاصرة، بل عمدوا دون تحرج أو تردد، ومن موقع الثقة بالنفس إلى نقل العلوم من اللغات المختلفة إلى اللغة
العربية" 36.
كما يحسن بنا التذكير، بأن ترجمة المصطلحات ظهرت لدى العرب في عهد بني أمية، ولكن أفقها لم يتسع إلا في عهد العباسيين، حيث جعلت منشطاً من مناشط الدولة يحظى بدعمها المعنوي والمادي. فيذكر في هذا المساق ما أتاه الخليفة المنصور من ديوان للترجمة الذي وسعه الرشيد، وما أتاه الخليفة المأمون في "بيت الحكمة" الذي كان بمنزلة المجمع العلمي والمرصد الفكري والمكتبة العامة التي أقام فيها طائفة من المترجمين وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال37.
وهكذا ترجمت المعارف عن الهندية والفارسية، واغترف العرب من كتب الإغريق ما يناهز مئة كتاب في الرياضيات وفي الطب. الأمر الذي جعل اللغة العربية لغة علمية بل لغة صالحة للتعبير عن بعض موضوعات العلوم الحديثة. وعلى الرغم من هذه الجهود، فلم تكن في ذلك العهد مجامع لغوية أو لجان جامعية أو مكاتب للتعريب أو دوائر معاجم تلّم مثل هذه الجهود، وظل المعيار الرئيس في هذه العملية هو الترجمة كحد فاصل يقتضي صياغة اللفظة العربية بدقة.
أما في العصر الحديث، ونظراً لأهمية دور المصطلح فقد رافق النهضة الثقافية في القرنين 19 و20 سعي حثيث لإيجاد المصطلحات العلمية التي تطلبها تدريس العلوم المعاصرة باللغة العربية في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية. وقد أسهمت في مثل هذه المساعي جهات عدة، مثل الهيئات والمؤسسات والمجامع والجامعات والمجالس والمنظمات والاتحادات.
وظهر هذا خلال هذه الحقبة من الزمن رجال أفذاذ نابهون لم يوفروا جهداً أو وقتاً ولم يخشوا عناءً في خدمة لغتهم وإغنائها بالمصطلحات الجديدة، فمنهم من ترجم الكتب القيمة إلى العربية ومنهم من ألّف في الموضوعات العلمية وآخر وضع المعاجم المتخصصة ثم جاء دور الهيئات والمؤسسات.
والملاحظ خلال هذه الفترة الزمنية، أن دور المصطلح لم يكن منوطاً بأية هيئة من الهيئات، بل كان عملاً مشاعاً متروكاً لمبادرة الأساتذة الجامعيين ورجال العلم والثقافة والأدب والصحافة والترجمة.
وحين تأتي إلى اللغة العربية، تجد أن المصطلحات بالنسبة لـهذه اللغة غدت "جزءاً مهماً من اللغة كما في كل اللغات المعاصرة، باعتبارها مفاتيح المعرفة الإنسانية في شتى فروعها، ووسيلة التفاهم والتواصل بين الناس في مختلف المجالات العلمية والعملية"38.
4 ـ المصطلحية/الإشكالية:
لما كانت إشكاليات المصطلح تأتي في صدارة الطرح النقدي المعاصر، سعى بعض الدارسين إلى اعتبار علم المصطلح أو المصطلحية علماً قائماً بذاته باعتبار أن "كل علم بحاجة إلى مجموعة من المصطلحات المحددة بكل دقة، وهذه المصطلحات هي التي تحدد مصطلحيته" 39 ووفقاً لـهذا الاعتبار فلا وجود لعلم دون مصطلحية" 40.
ولا أدل على الأهمية التي يكتسبها علم المصطلح هو أن كل علم يحتاج أكثر من حقل من حقول المعرفة إلى مجموعة مصطلحات محددة تحديداً دقيقاً يستطيع بواسطتها التعبير عن المفاهيم التي يحتاج إليها: وتمثل مجموعة المصطلحات هذه مصطلحية، إذ لا وجود لأي علم من دون مصطلحية41. وعلى هذا الأساس فرق الدارسون بين المصطلح Terme والمصطلحية Terminologie هذه الأخيرة التي تعنى بدارسة المصطلح في ذاته، دراسة مورفولوجية مجردة وفي ارتباطه بالمفهوم الذي يعبر عنه.
تجاوزاً لإشكالية التفرقة بين علم المصطلح والمصطلحية والمصطلحاتية وسواها من التسميات. جاز اعتبار علم المصطلح من أحدث فروع علم اللغة التطبيقية يتناول الأسس العلمية لوضع المصطلحات وتوحيدها، ومعنى ذلك أن وضع المصطلحات لم يعد في ضوء المعايير المعاصرة يتم على أساس البحث المفرد في كل مصطلح على حده، وقد كان "فوستر E.Wuster" قد حدد مكان علم المصطلح بين أفراد فروع المعرفة بأنه مجال يربط علم اللغة بالمنطق وبعلم الوجود (الانطولوجيا) وبعلم المعلومات وبفروع العلم المختلفة" 42.
من بعد ذلك، حدد فوستر مجالات علم المصطلح العام أو النظرية العامة لعلم المصطلح تحديداً اتسعت مجالاته بتقدم هذا العلم، فيتناول علم المصطلح العام "طبيعة المفاهيم، وخصائص المفاهيم، وعلاقات المفاهيم، ونظم المفاهيم، ووصف المفاهيم، وطبيعة المصطلحات، ومكونات المصطلحات، والعلاقات والرموز، وأنماط الكلمات، والمصطلحات، وتوحيد المفاهيم، والمصطلحات ومعجمات المصطلح (...) أما علم المصطلح الخاص فيتضمن شكل القواعد الخاصة بالمصطلحات في لغة مفردة مثل اللغة العربية أو اللغة الفرنسية أو اللغة الألمانية" 43. ومثل هذا التمييز بين العلمين يوازي التميز بين علم اللغة العام وعلم اللغة الخاص.
وتعد المصطلحية (المصطلحاتية) جهازاً معبراً عن المعارف والقوانين وكشفاً مفهومياً يولي كل علم من العلوم أهميته وهو يتوافر على علاقة وطيدة بالعلوم الأخرى كعلم المعرفة واللسانيات وعلم المنطق وعلم الدلالة. وعلوم أخرى لا يمكن حصرها بالنظر لكثرتها 44. لأنه العلم الذي يتناول شتى الموضوعات الأساسية التي تلقى تطبيقاً في وضع المصطلحات وتوحيدها، وربما لـهذا الأساس عمل العالم فوستر Wuster عملاً متقناً في هذا المجال، إذ تعد نظريته من أحدث النظريات وأرقاها وأغناها وأكثرها اهتماماً بالمصطلحاتية بحيث تبنتها مدرسة فيينا.
ونحن نروم في هذا البحث محاولة صياغة تحديد للمصطلحية وعلم المصطلح يجدر بنا الأوبة إلى تفرقة عبد السلام المسدي في قاموس اللسانيات حينما عد المصطلحية "علماً ينحصر بحصر كشوف المصطلحات بحسب كل فرع معرفي، فهو كذلك علم تصنيفي تقريري يعتمد الوصف والإحصاء مع السعي إلى التحليل التاريخي، أما علم المصطلح فهو تنظيري في الأساس تطبيقي في الاستثمار لا يمكن الذهاب فيه إلا بحسب تصور مبدئي لجملة من القضايا الدلالية والتكوينية في الظاهرة اللغوية (...) فبين علم المصطلح والمصطلحية العلم فوق ما بين المعجمية والقاموسية، من كل زوجين جنس لبعض الزوج الآخر" 45.
على الرغم من أن الباحث تراجع في مثل هذه التفرقة وهذا التمييز بين المصطلحين، ضمن مقالاته المتأخرة حيث سعى ضميناً إلى اعتبار المصطلحين مرادفين لمعنى واحد. قائلاً: "إن ما يعكف عليه اللغويون عادة ضمن واحد من أفنان الشجرة المعجمية بعلم المصطلح أو المصطلحية" 46.
على النقيض من هذه الإرهاصات الأولية لعلم المصطلح، يمكننا الإشارة كذلك إلى مدرسة براغ Ecole de Prague التي حللت وظيفة اللغة. وأخذت من اللسانيات نقطة انطلاق لـها. لاسيما من خلال التقطيع المزدوج للغة ومسألة الوظيفة، فكلا التقطيعين ينجم عنهما دور ووظيفة. الفونم والمونم، لأن اللغة أي لغة في نظر اتباع هذه النظرية هي كلٌّ وظيفي أو مجموعة متشابكة من الوسائل اللغوية التي تخدم غرضاً اقتصادياً معنياً.
وفي المقابل، جاءت حركات أخرى دعت إلى التمييز بين نماذج من العناصر غير المصطلحية معتمدة العنصر التزامني أي التمييز بين العناصر المصطلحية والعناصر غير المصطلحية، ثم التمييز بين الوحدات العبارية الدالة للغة الأغراض العامة والوحدات العبارية غير الدالة لـها47.
مادمنا في خضم الحديث عن الجهود اللسانية صوب المصطلحية، يمكن الإشارة كذلك إلى النظريات الأوروبية التي جاءت بمظاهر جديدة في المصطلحية لم يسبق لـها أن قامت، أمر خلق ضرباً من التقارب بين اللسانيات والمصطلحية، إلى درجة أن أضحت هذه الأخيرة حقلاً من حقول البحث المعترف بها في اللسانيات التطبيقية، وهي نقطة التشاكل التي خلصت إليها جهود فوستر، وأدى هذا الاهتمام لدى الباحثين إلى حصر موضوعات الدراسة في النظرية العامة للمصطلحية ضمن ثلاثة حقول رئيسية هي:
1 ـ الدلالية Semantique
2 ـ القاموسية Lexicologie
3 ـ المعجمي Lexicographie
وإذا كان هذا التحديد هو الأقرب للمصطلحية، فإن النطاق الرئيس لـها هو أن حدودها تلتحم بحدود علوم أخرى ليست بطبيعتها علوماً لسانياتية مثل المنطق (الفلسفة) ونظرية المعرفة والمعلومات والتوثيق أي البحث الوثائقي علاوة على التصنيف Classification
وتظهر الحاجة ماسة للتحدث في هذا المساق عن أبرز واضعي علم المصطلح، من ذلك واضعو المنظومية Systematic والتسميات Nomenclatemes وعلم التشريح Bertholler وLavoisier والكيمياء Cinnanens وعليه فقد وضع Lavisier مصطلحات منظومية أقر خلالها بالعلاقات المتداخلة بين التصور Le concept والمصطلح Le terme والباحث على المصطلح Motivation 48.
ودائماً بخصوص ذكر الجهود في حقل المصطلحية، يذكر أن القرن 19 اتسم بخطوات عملاقة تقدمت بها المسيرة العلمية، ووجدت طريقاً إلى التطبيق العملي، ومن ثم نشأت حاجة كبيرة للمصطلحية.
وفي النصف الثاني من القرن الماضي أصبحت مهمة تحقيق التواصل المهني مُلِّحة، خاصة بالنسبة للتفاهم المتبادل بين الخبراء العاملين في الحقل المعرفي الواحد مع تباين في الخلفية اللغوية. فنذكر على سبيل التدليل أن المنظمة العالمية للتقنية الكهربائية Electrotechnical International Commission. IEC سرعان ما شكلت بعد تأسيسها 1906 لجنة عهد إليها مهمة التنسيق والتخطيط لمصطلحية هذا الحقل الخاص 49.
ومثل هذا الجهد على ما فيه من جدّية لوحظ كلية بأنه لا يبصر بعملية تصنيف المعجم التعريفي فحسب بل يبصر بتطور بعض الأسس المصطلحية. إضافة إلى ما قام به العالم Frege 1892 من تقييم لـهذا الجهد والعمل المعجمي.
ومن أمثلة هذه الازدواجية في التفرقة بين المصطلحية وعلم المصطلح ذهب الباحث عبد الملك مرتاض إلى إيجاد مصطلح، المصطلحاتية والمصطلحية قرائن لـهذا العلم المصطلح وحصره في ثلاثة جوانب هي 50:
أ/ العلاقات بين المفاهيم المتداخلة مثل الجنس والنوع والكل والجزء.
ب/ المصطلحات اللغوية والعلاقات القائمة بينها ووسائل وضعها، فهو فرع خاص من فروع علم الألفاظ والمفردات Lexicologie وعلم تطور دلالات الألفاظ Semasiologe
ج/ الطرائق العامة المؤدية إلى خلق اللغة العلمية والتقنية.
في الاتجاه نفسه أشار الباحث علي القاسمي 51 إلى المصطلحية. كعلم أشار إليه علماء الأحياء والكيمياء الأوروبيون الذين شرع فريق منهم في توحيد قواعد المصطلحات في حوالي 16 مجلداً، ثم أصدر الباحث فيما ذكرنا سلفاً ـ "فيستر" كتابه (التوحيد الدولي للغات الهندسة) ثم في سنة 1936 شكلت اللجنة التقنية للمصطلحات، وتلتها محاولات أخرى ضمن منظمة اليونسكو مركز المعلومات الدولي في فيينا 1971، هذا فضلاً عن الجامعات العربية التي اهتمت بتدريس النظرية العامة كعلم المصطلح.
ومن المفيد كذلك، أن نذكر أنه على الرغم من قلة الاهتمام بعلم المصطلح في المعاجم الأوروبية المتخصصة في القديم فإنها عادة ما كانت تقرن باللفظة Mot خاصة لدى اللغويين المنتمين لمدرسة براغ التي كان لـها دور كبير في النظرية العامة لعلم اللغة ولتطبيقاته في التحليل اللغوي للنصوص الأدبية.
وفي الجهة الأخرى، أصبح الاهتمام بالمصطلحية مركزاً هاماً في الأبحاث الحديثة لما لـها من دور في ضبط التعامل في الحياة اليومية والعملية، وفي بناء النظريات والمناهج في الحياة العملية، ويتجلى هذا الاهتمام في مناحٍ عدّة أهمها، التآليف اللغوية والقواميس والمعاجم والكتب المختصة، وهي التآليف التي اهتمت بدراسة الكلمات والمفاهيم والمصطلحات وحاول أصحابها التفرقة بينها.
في هذا المجال، وإن شئنا ضبط العلوم التي بينها وبين المصطلحية شجرة نسب فإننا لا نستطع تحديد شكل هذا التوافق لفرط كثرته واختلاف نسب التقارب بينهما. فمن باب التنظير لـهذا العلم المستحدث يمكننا القول بأن الدراسات الجادة والمهتمة بالمصطلحية عائدة إلى حداثتها، فقد ذكر فوستر Wuster بأن تقويم النظرية المصطلحاتية ومبادئها واستعمالها لم يبدأ إلا في السبعينيات في جامعات دول بينها: النمسا وكندا وتشيكوسلوفاكيا والدانمارك وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول (...) 52.
من خلال ذلك، حدث التقدم العلمي وحدث أن تزايد الاهتمام بقضية المصطلحات، وأدرك العلماء الكبار في الحضارة الأوروبية عملية توحيد المصطلحات في تخصص مهم، ثم حدث التقدم في عدة دول أوروبية، وعرفت كل دولة مواقع عديدة للبحث والتطبيق في هذا المجال، بحيث كثر الباحثون وزادت الحاجة إلى مصطلحات جديدة وزاد الاهتمام بتوحيد لـهذه المصطلحات من أجل تحسين عملية التواصل بين الباحثين.
ولعل أولى مظاهر الإرهاصات في علم المصطلح أو المصطلحية تتجلى في أول خطوة جدية ظهرت مع ظهور معجم شلومان schlammen المصور للمصطلحات التقنية A.schammans illustrated technical vocabularies. في اللغة الإنجليزية، وهو المؤلف الذي ظهر في 16 مجلداً وبست لغات بين عامي 1906 و1928 ـ 53.
وبالفعل، فقد أفاد هذا المعجم الباحثين كثيراً وأغنى مجال المصطلحية لا سيما في طريقة ترتيب المواد التي تمت على أساس المفاهيم، وأوضح مدلول المصطلح، كوعاء يوضع فيه مضمون من المضامين وأداة تحمل رسالة جد خطيرة، تسهم في تطور العلم والمعرفة النظرية منها والتطبيقية على
امتداد الحضارات المختلفة والأنساق الفكرية المتعددة والعقائد والمذهبات المتميزة 54.
ودائماً في مساق التأريخ لعلم المصطلح، يجدر بنا القول إن العرب هم كذلك لـهم باعهم في مجال التأليف في المصطلحية من مثل كتاب (التعريفات) للشريف الجرجاني و(مفاتيح العلوم) للخوارزمي، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.
في العصر الحديث يجدر التنويه بالمجهودات المصطلحية التي قام بها بعض العلماء والتي قامت وتقوم بها المجامع العربية مثل: ما ذكره الباحث رشاد الحمزاوي في منهجية التنميط (المبادئ والتطبيقات) بحيث اشترط في المنهجية وفرة قائمة المصادر والمراجع، ثم ذكر الاطراد واليسر في التداول والملاءمة أي عدم التداخل ثم تحدث عن الاشتقاق ودعا إلى تجنب الغرابة. وفي سياق التنميط الكمي فقد صوره في أربع نقاط هي: الشيوع، ويسر التداول، والملائمة، والحوافز 55.
ومن جملة مجامع اللغة العربية نذكر المجمع المصري 1932 والمجمع السوري 1979 والمجمع العراقي 1937 والمجمع الأردني 1976 والمجمع الهندي 1976 فضلاً عن بعض الهيئات التي أسست في خدمة المصطلح مثل: مكتب تنسيق التعريف بالرباط 1969 ومعهد العلوم اللسانية والصوتية بجامعة الجزائر 1966.
أما بنوك المعلومات فنذكر من بينها البنك التابع للمجموعة الاقتصادية الأوروبية Eurodicaution وبنك مكتب اللغة الفرنسية b.t.q الكائن بكندا وبنك Normoterm التابع لمؤسسة afnor وبنك terminum الكندي وبنك
Le xar 56 .
ولا يقتصر الأمر على مجهودات البنوك والمجامع بل تعداها إلى بعض المنظمات من مثل: المنظمة الدوليّة للتقييس I.S.O كلجنة تقنية خاصة تحمل رقم 37 وهي المنظمة التي أسهمت في إرساء هذا العلم وأثرت مجال المعجمات. ومنذ سنة 1951 قامت لجنة المصطلحات بالمنظمة الدولية للمواصفات القياسية بمتابعة العمل في وضع الأسس والتنسيق بين الجهود.؟
كما يبدو جلياً تتبع بعض الهيئات لقضايا المصطلح عالمياً كما هو الحال لدى الاتحاد الدولي لعلم اللغة التطبيقي الذي أرسى دعائم لجنة خاصة بالمصطلحية تضم كثيراً من المتخصصين، حيث عقدت مؤتمرها الأول مرة في كندا عام 1978، تناول فيها أعضاؤها نظرية علم المصطلح وتعليم المصطلحات 57.
وبما أن العمل قد بدأ، كان جد الجاد من رجال العلم واللغة هو الذي سد المسدّ فأغنى اللغة وأثرى الثقافة وفتح الباب عريضاً للتأليف والكشف والإبداع في مؤتمرات أخرى دولية في علم المصطلح عقدت والتي اهتم فيها أصحابها بالأسس المنهجية لعمل المصطلحات في دول العالم المختلفة مع بيان القضايا اللغوية من ذلك، ومنها قضايا التجديد المعجمي في المصطلحات.
في ضوء كل ما سبق حول المصطلحية أو علم المصطلح، يتجلى للرائي أن أولى المنطلقات التي يستوجب عليه الشروع فيها بخصوص هذا الحقل هو تبيان القواعد العامة في صياغة المصطلحات العلمية والفنية، ثم تأتي المرحلة الموالية، وهي البحث في القواعد الأساسية المتحكمة في صياغة المصطلح ضمن اللغة المحددة.
وبناءً على ذلك، يقع استقراء الآليات التي تتوافر في بنية اللغة العربية ويسمح لـها بتوليد الألفاظ وتركيب المصطلحات مع مقارنتها بالآليات التي تتضمنها اللغات الأخرى لا سيما تلك التي يأخذ عنها اللسان العربي اليوم أغلب المصطلحات المستحدثة بحكم الثورة المعرفية العالمية.
وفي مرحلة أخرى يأتي مجال بحثنا في آليات صياغة المصطلح. مع العلم، أن لصياغة المصطلح أي مصطلح آليات تتبع سبلاً من الصيغ وقوالب من البناء هي التي توجهها معايير تتصل بموازين الكلمة وتركيبتها المقطعية وانتظامها الصوتي. وبناءً على ذلك، خلص النقاد والمختصون في مجال المصطلحية إلى أن المصطلح مثلاً في مجال النقد يعتمد على النقل والتوليد وعلى استخلاص الاسم من الاسم، ولاسيما عن طريق قالب المصدر الصناعي، كما يعتمد على كل مراتب التجريد الاصطلاحي، مرة بالامتثال إلى تتابعها الطبيعي، ومرة أخرى بالقفز على انتظامها 58.
في ضوء ما سبق، يتضح أن بين المصطلح والمصطلحية صلة وشيجة وترابطاً محكماً، ذلك أن المصطلح الذي نعني فيما نعني أن يكون أداة تفكير في كل علم وفن ووسيلة إيصال في مجال التعليم والبحث والتأثير. والحقل المصطلحي أو علم المصطلح هو المجال الاشتغالي للمصصلح أي الخلفية الابستيمية التي تستمد منها المصطلحات أصولها وتتحدث ضمن إطارها ولكل مصطلح مرجعيته، أو ما يسمَّى بمرجع المصطلح59. بمعنى الحقل المعرفي الذي يعبر المصطلح عن بعض جوانبه.
وتوكيداً لـهذه المنطلقات التي سلمنا بها في مجال علم المصطلحات والمنبثقة من البحوث اللغوية الأساسية، يمكننا إيجاز خصائص المصطلحية فيما يأتي 60:
1 ـ إن منطلق العمل في مجال المصطلحية هو تحديد المفاهيم تحديداً دقيقاً ومحاولة إيجاد المصطلحات الدالة عليها، ثم تقنين المصطلحات في ضوء المفاهيم العملية النابعة من طبيعة الموضوع نفسه.
2 ـ اقتصار علم المصطلح على المجال البحثي في المفردات على خلاف علم اللغة الذي يبحث في مجالات بناء الجمل والأصوات.
3 ـ علم المصطلح أو المصطلحية منطلقه تزامني Synchronic وهو يبحث في جمل الحالة للمفهوم.
4 ـ تخضع المصطلحات لمبدأ الاتفاق، ويختص مجال المصطلحية بمجال تكوين هذه المصطلحات وتوحيدها وجعلها مواكبة للمسميات.
5 ـ يتجاوز علم المصطلح الوصفية إلى المعيارية على خلاف علم اللغة.
6 ـ علم المصطلح جزء من التنمية اللغوية، ومهمة علم المصطلح في هذا السياق إيجاد الوسائل الأساسية للوصول باللغات الوطنية الكبرى على مستوى التعبير الكامل عن حضارة العصر وعلومه.
7 ـ اعتماد علم المصطلح على الكلمة المكتوبة على خلاف البحث اللغوي الذي يعتمد على المنطوق.
8 ـ يعتمد علم المصطلح على التوحيد المعياري واختيار المصطلح المناسب للمفهوم الأنسب.
9 ـ علم المصطلح ذو أفق عالمي مثل علم اللغة بصفة عامة، ويتطلب التوحيد المعياري للمصطلحات أسساً ونظرية عامة.
10 ـ يتطلب علم المصطلح التعرض للمصطلحات في مجالات محددة.
11ـ علم المصطلح حقل لـه وشائح بشتى العلوم.
تابع تكملة البحث
المصطلح/ الأثر
ما من شك في أن للمصطلح دوراً أساسياً وفاعلاً في تكوين المعرفة، وأن أية ثقافة كانت، لن تنهض ويستقيم صرحها، إلا إذا أفلحت في إنتاج معرفة خصبة وجديدة، توجهها اصطلاحات واضحة للدلالة. وفي الحال نفسه فإن ثقافة أية أمة من الأمم، تقوض وتفكك بالنظر لعدة أسباب أهمها اضطراب دلالة المصطلح وتكاثر المصطلحات وتعارض مفاهيمها وعدم استقرارها.
وعليه، فللمصطلح دور كبير في حياة الناس، وهو الذي ينظم التواصل بينهم، في شتى ميادين النظم والعمل، لأن المفاهيم ترسخ في الأذهان بحسب الكلمات المتفق عليها لدى الناس أجمعين.
ولسنا نحن العرب وحدنا من يحتاج إلى المصطلح بلغته، بل إن الكثرة الكاثرة من لغات العالم تفتقر إلى ما تفتقر إليه اللغة العربية من ألفاظ فنية تدل على المعاني والأعيان المستحدثة33. لأن الغزو اللغوي ظاهر في كثير من البلدان. يحمل في طياته غزواً ثقافياً من خصائصه وتنميطاً للأفكار والمفاهيم والعادات والسلوكيات، ويخضع للغزو الصناعي الذي تقوم به الدول المتقدمة وتخضع لـه الدول النامية.
وغني عن القول، أن بعض الدارسين ـ فيما أوردوه من تحديدات للمصطلح، يقرنون بين المصطلح والمفهوم وفي ذلك ما أورده بعضهم ترجمة عن جون ولسون J.Wilson حيث أشار أن "المصطلح هو تعيين مفهوم ما في شكل حروف أو أرقام أو كتابة رسم أو تأليف ما من هذه العناصر" 34 ومن خلال ذلك رأوا أنّ للمصطلح علاقة وطيدة مع المفهوم. وفي ضوء ذلك، اقترحوا تحديداً قوامه أن المفاهيم ليست هي المصطلحات، لأن المفاهيم هي بمنزلة مقولات أو فئات أو مجموعات تسمح بتصنيف الوقائع ضمن مفاهيم ومقولات محدودة جداً والمصطلح غير ذلك.
ونظراً للدور الرئيس في البنى المعرفية، فإن الحقول المعرفية تظل تتحدد دائماً بتحديد دلالات مصطلحاتها واستقرار مفاهيمها، وبقدر رواج المصطلحات وشيوعها وتقبل الباحثين والمهتمين لـهذا المصطلح أو ذاك، يحقق العلم أو "الحقل المعرفي" ثبات منهجيته 35.
ثم إن اللغة العربية مثلما لم تواجه الحاجة إلى المصطلح للمرة الأولى في هذا العصر، بل سبق لـها أن واجهت هذه الحاجة في القرن 2 هـ، في عصر ازدهار الترجمة أيام العباسيين. لأن العرب، آنذاك أيام الرشيد والمأمون لم يخطر لـهم التنبه أن يهجروا لسانهم، الذي كانوا يعتزون به أيما اعتزاز فصاحة لفظ وروعة بيان، ليطلبوا العلوم التي وجدوها متقدمة، قياساً على ما كانت عليه عندهم، بإحدى اللغات التي كانت تلك العلوم مدونة بها كاليونانية والفارسية والهندية، كما فعل بعض العرب في العصر الحديث الذين توهموا ومازالوا أن لغتهم تضيق بالعلوم المعاصرة، بل عمدوا دون تحرج أو تردد، ومن موقع الثقة بالنفس إلى نقل العلوم من اللغات المختلفة إلى اللغة
العربية" 36.
كما يحسن بنا التذكير، بأن ترجمة المصطلحات ظهرت لدى العرب في عهد بني أمية، ولكن أفقها لم يتسع إلا في عهد العباسيين، حيث جعلت منشطاً من مناشط الدولة يحظى بدعمها المعنوي والمادي. فيذكر في هذا المساق ما أتاه الخليفة المنصور من ديوان للترجمة الذي وسعه الرشيد، وما أتاه الخليفة المأمون في "بيت الحكمة" الذي كان بمنزلة المجمع العلمي والمرصد الفكري والمكتبة العامة التي أقام فيها طائفة من المترجمين وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال37.
وهكذا ترجمت المعارف عن الهندية والفارسية، واغترف العرب من كتب الإغريق ما يناهز مئة كتاب في الرياضيات وفي الطب. الأمر الذي جعل اللغة العربية لغة علمية بل لغة صالحة للتعبير عن بعض موضوعات العلوم الحديثة. وعلى الرغم من هذه الجهود، فلم تكن في ذلك العهد مجامع لغوية أو لجان جامعية أو مكاتب للتعريب أو دوائر معاجم تلّم مثل هذه الجهود، وظل المعيار الرئيس في هذه العملية هو الترجمة كحد فاصل يقتضي صياغة اللفظة العربية بدقة.
أما في العصر الحديث، ونظراً لأهمية دور المصطلح فقد رافق النهضة الثقافية في القرنين 19 و20 سعي حثيث لإيجاد المصطلحات العلمية التي تطلبها تدريس العلوم المعاصرة باللغة العربية في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية. وقد أسهمت في مثل هذه المساعي جهات عدة، مثل الهيئات والمؤسسات والمجامع والجامعات والمجالس والمنظمات والاتحادات.
وظهر هذا خلال هذه الحقبة من الزمن رجال أفذاذ نابهون لم يوفروا جهداً أو وقتاً ولم يخشوا عناءً في خدمة لغتهم وإغنائها بالمصطلحات الجديدة، فمنهم من ترجم الكتب القيمة إلى العربية ومنهم من ألّف في الموضوعات العلمية وآخر وضع المعاجم المتخصصة ثم جاء دور الهيئات والمؤسسات.
والملاحظ خلال هذه الفترة الزمنية، أن دور المصطلح لم يكن منوطاً بأية هيئة من الهيئات، بل كان عملاً مشاعاً متروكاً لمبادرة الأساتذة الجامعيين ورجال العلم والثقافة والأدب والصحافة والترجمة.
وحين تأتي إلى اللغة العربية، تجد أن المصطلحات بالنسبة لـهذه اللغة غدت "جزءاً مهماً من اللغة كما في كل اللغات المعاصرة، باعتبارها مفاتيح المعرفة الإنسانية في شتى فروعها، ووسيلة التفاهم والتواصل بين الناس في مختلف المجالات العلمية والعملية"38.
4 ـ المصطلحية/الإشكالية:
لما كانت إشكاليات المصطلح تأتي في صدارة الطرح النقدي المعاصر، سعى بعض الدارسين إلى اعتبار علم المصطلح أو المصطلحية علماً قائماً بذاته باعتبار أن "كل علم بحاجة إلى مجموعة من المصطلحات المحددة بكل دقة، وهذه المصطلحات هي التي تحدد مصطلحيته" 39 ووفقاً لـهذا الاعتبار فلا وجود لعلم دون مصطلحية" 40.
ولا أدل على الأهمية التي يكتسبها علم المصطلح هو أن كل علم يحتاج أكثر من حقل من حقول المعرفة إلى مجموعة مصطلحات محددة تحديداً دقيقاً يستطيع بواسطتها التعبير عن المفاهيم التي يحتاج إليها: وتمثل مجموعة المصطلحات هذه مصطلحية، إذ لا وجود لأي علم من دون مصطلحية41. وعلى هذا الأساس فرق الدارسون بين المصطلح Terme والمصطلحية Terminologie هذه الأخيرة التي تعنى بدارسة المصطلح في ذاته، دراسة مورفولوجية مجردة وفي ارتباطه بالمفهوم الذي يعبر عنه.
تجاوزاً لإشكالية التفرقة بين علم المصطلح والمصطلحية والمصطلحاتية وسواها من التسميات. جاز اعتبار علم المصطلح من أحدث فروع علم اللغة التطبيقية يتناول الأسس العلمية لوضع المصطلحات وتوحيدها، ومعنى ذلك أن وضع المصطلحات لم يعد في ضوء المعايير المعاصرة يتم على أساس البحث المفرد في كل مصطلح على حده، وقد كان "فوستر E.Wuster" قد حدد مكان علم المصطلح بين أفراد فروع المعرفة بأنه مجال يربط علم اللغة بالمنطق وبعلم الوجود (الانطولوجيا) وبعلم المعلومات وبفروع العلم المختلفة" 42.
من بعد ذلك، حدد فوستر مجالات علم المصطلح العام أو النظرية العامة لعلم المصطلح تحديداً اتسعت مجالاته بتقدم هذا العلم، فيتناول علم المصطلح العام "طبيعة المفاهيم، وخصائص المفاهيم، وعلاقات المفاهيم، ونظم المفاهيم، ووصف المفاهيم، وطبيعة المصطلحات، ومكونات المصطلحات، والعلاقات والرموز، وأنماط الكلمات، والمصطلحات، وتوحيد المفاهيم، والمصطلحات ومعجمات المصطلح (...) أما علم المصطلح الخاص فيتضمن شكل القواعد الخاصة بالمصطلحات في لغة مفردة مثل اللغة العربية أو اللغة الفرنسية أو اللغة الألمانية" 43. ومثل هذا التمييز بين العلمين يوازي التميز بين علم اللغة العام وعلم اللغة الخاص.
وتعد المصطلحية (المصطلحاتية) جهازاً معبراً عن المعارف والقوانين وكشفاً مفهومياً يولي كل علم من العلوم أهميته وهو يتوافر على علاقة وطيدة بالعلوم الأخرى كعلم المعرفة واللسانيات وعلم المنطق وعلم الدلالة. وعلوم أخرى لا يمكن حصرها بالنظر لكثرتها 44. لأنه العلم الذي يتناول شتى الموضوعات الأساسية التي تلقى تطبيقاً في وضع المصطلحات وتوحيدها، وربما لـهذا الأساس عمل العالم فوستر Wuster عملاً متقناً في هذا المجال، إذ تعد نظريته من أحدث النظريات وأرقاها وأغناها وأكثرها اهتماماً بالمصطلحاتية بحيث تبنتها مدرسة فيينا.
ونحن نروم في هذا البحث محاولة صياغة تحديد للمصطلحية وعلم المصطلح يجدر بنا الأوبة إلى تفرقة عبد السلام المسدي في قاموس اللسانيات حينما عد المصطلحية "علماً ينحصر بحصر كشوف المصطلحات بحسب كل فرع معرفي، فهو كذلك علم تصنيفي تقريري يعتمد الوصف والإحصاء مع السعي إلى التحليل التاريخي، أما علم المصطلح فهو تنظيري في الأساس تطبيقي في الاستثمار لا يمكن الذهاب فيه إلا بحسب تصور مبدئي لجملة من القضايا الدلالية والتكوينية في الظاهرة اللغوية (...) فبين علم المصطلح والمصطلحية العلم فوق ما بين المعجمية والقاموسية، من كل زوجين جنس لبعض الزوج الآخر" 45.
على الرغم من أن الباحث تراجع في مثل هذه التفرقة وهذا التمييز بين المصطلحين، ضمن مقالاته المتأخرة حيث سعى ضميناً إلى اعتبار المصطلحين مرادفين لمعنى واحد. قائلاً: "إن ما يعكف عليه اللغويون عادة ضمن واحد من أفنان الشجرة المعجمية بعلم المصطلح أو المصطلحية" 46.
على النقيض من هذه الإرهاصات الأولية لعلم المصطلح، يمكننا الإشارة كذلك إلى مدرسة براغ Ecole de Prague التي حللت وظيفة اللغة. وأخذت من اللسانيات نقطة انطلاق لـها. لاسيما من خلال التقطيع المزدوج للغة ومسألة الوظيفة، فكلا التقطيعين ينجم عنهما دور ووظيفة. الفونم والمونم، لأن اللغة أي لغة في نظر اتباع هذه النظرية هي كلٌّ وظيفي أو مجموعة متشابكة من الوسائل اللغوية التي تخدم غرضاً اقتصادياً معنياً.
وفي المقابل، جاءت حركات أخرى دعت إلى التمييز بين نماذج من العناصر غير المصطلحية معتمدة العنصر التزامني أي التمييز بين العناصر المصطلحية والعناصر غير المصطلحية، ثم التمييز بين الوحدات العبارية الدالة للغة الأغراض العامة والوحدات العبارية غير الدالة لـها47.
مادمنا في خضم الحديث عن الجهود اللسانية صوب المصطلحية، يمكن الإشارة كذلك إلى النظريات الأوروبية التي جاءت بمظاهر جديدة في المصطلحية لم يسبق لـها أن قامت، أمر خلق ضرباً من التقارب بين اللسانيات والمصطلحية، إلى درجة أن أضحت هذه الأخيرة حقلاً من حقول البحث المعترف بها في اللسانيات التطبيقية، وهي نقطة التشاكل التي خلصت إليها جهود فوستر، وأدى هذا الاهتمام لدى الباحثين إلى حصر موضوعات الدراسة في النظرية العامة للمصطلحية ضمن ثلاثة حقول رئيسية هي:
1 ـ الدلالية Semantique
2 ـ القاموسية Lexicologie
3 ـ المعجمي Lexicographie
وإذا كان هذا التحديد هو الأقرب للمصطلحية، فإن النطاق الرئيس لـها هو أن حدودها تلتحم بحدود علوم أخرى ليست بطبيعتها علوماً لسانياتية مثل المنطق (الفلسفة) ونظرية المعرفة والمعلومات والتوثيق أي البحث الوثائقي علاوة على التصنيف Classification
وتظهر الحاجة ماسة للتحدث في هذا المساق عن أبرز واضعي علم المصطلح، من ذلك واضعو المنظومية Systematic والتسميات Nomenclatemes وعلم التشريح Bertholler وLavoisier والكيمياء Cinnanens وعليه فقد وضع Lavisier مصطلحات منظومية أقر خلالها بالعلاقات المتداخلة بين التصور Le concept والمصطلح Le terme والباحث على المصطلح Motivation 48.
ودائماً بخصوص ذكر الجهود في حقل المصطلحية، يذكر أن القرن 19 اتسم بخطوات عملاقة تقدمت بها المسيرة العلمية، ووجدت طريقاً إلى التطبيق العملي، ومن ثم نشأت حاجة كبيرة للمصطلحية.
وفي النصف الثاني من القرن الماضي أصبحت مهمة تحقيق التواصل المهني مُلِّحة، خاصة بالنسبة للتفاهم المتبادل بين الخبراء العاملين في الحقل المعرفي الواحد مع تباين في الخلفية اللغوية. فنذكر على سبيل التدليل أن المنظمة العالمية للتقنية الكهربائية Electrotechnical International Commission. IEC سرعان ما شكلت بعد تأسيسها 1906 لجنة عهد إليها مهمة التنسيق والتخطيط لمصطلحية هذا الحقل الخاص 49.
ومثل هذا الجهد على ما فيه من جدّية لوحظ كلية بأنه لا يبصر بعملية تصنيف المعجم التعريفي فحسب بل يبصر بتطور بعض الأسس المصطلحية. إضافة إلى ما قام به العالم Frege 1892 من تقييم لـهذا الجهد والعمل المعجمي.
ومن أمثلة هذه الازدواجية في التفرقة بين المصطلحية وعلم المصطلح ذهب الباحث عبد الملك مرتاض إلى إيجاد مصطلح، المصطلحاتية والمصطلحية قرائن لـهذا العلم المصطلح وحصره في ثلاثة جوانب هي 50:
أ/ العلاقات بين المفاهيم المتداخلة مثل الجنس والنوع والكل والجزء.
ب/ المصطلحات اللغوية والعلاقات القائمة بينها ووسائل وضعها، فهو فرع خاص من فروع علم الألفاظ والمفردات Lexicologie وعلم تطور دلالات الألفاظ Semasiologe
ج/ الطرائق العامة المؤدية إلى خلق اللغة العلمية والتقنية.
في الاتجاه نفسه أشار الباحث علي القاسمي 51 إلى المصطلحية. كعلم أشار إليه علماء الأحياء والكيمياء الأوروبيون الذين شرع فريق منهم في توحيد قواعد المصطلحات في حوالي 16 مجلداً، ثم أصدر الباحث فيما ذكرنا سلفاً ـ "فيستر" كتابه (التوحيد الدولي للغات الهندسة) ثم في سنة 1936 شكلت اللجنة التقنية للمصطلحات، وتلتها محاولات أخرى ضمن منظمة اليونسكو مركز المعلومات الدولي في فيينا 1971، هذا فضلاً عن الجامعات العربية التي اهتمت بتدريس النظرية العامة كعلم المصطلح.
ومن المفيد كذلك، أن نذكر أنه على الرغم من قلة الاهتمام بعلم المصطلح في المعاجم الأوروبية المتخصصة في القديم فإنها عادة ما كانت تقرن باللفظة Mot خاصة لدى اللغويين المنتمين لمدرسة براغ التي كان لـها دور كبير في النظرية العامة لعلم اللغة ولتطبيقاته في التحليل اللغوي للنصوص الأدبية.
وفي الجهة الأخرى، أصبح الاهتمام بالمصطلحية مركزاً هاماً في الأبحاث الحديثة لما لـها من دور في ضبط التعامل في الحياة اليومية والعملية، وفي بناء النظريات والمناهج في الحياة العملية، ويتجلى هذا الاهتمام في مناحٍ عدّة أهمها، التآليف اللغوية والقواميس والمعاجم والكتب المختصة، وهي التآليف التي اهتمت بدراسة الكلمات والمفاهيم والمصطلحات وحاول أصحابها التفرقة بينها.
في هذا المجال، وإن شئنا ضبط العلوم التي بينها وبين المصطلحية شجرة نسب فإننا لا نستطع تحديد شكل هذا التوافق لفرط كثرته واختلاف نسب التقارب بينهما. فمن باب التنظير لـهذا العلم المستحدث يمكننا القول بأن الدراسات الجادة والمهتمة بالمصطلحية عائدة إلى حداثتها، فقد ذكر فوستر Wuster بأن تقويم النظرية المصطلحاتية ومبادئها واستعمالها لم يبدأ إلا في السبعينيات في جامعات دول بينها: النمسا وكندا وتشيكوسلوفاكيا والدانمارك وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول (...) 52.
من خلال ذلك، حدث التقدم العلمي وحدث أن تزايد الاهتمام بقضية المصطلحات، وأدرك العلماء الكبار في الحضارة الأوروبية عملية توحيد المصطلحات في تخصص مهم، ثم حدث التقدم في عدة دول أوروبية، وعرفت كل دولة مواقع عديدة للبحث والتطبيق في هذا المجال، بحيث كثر الباحثون وزادت الحاجة إلى مصطلحات جديدة وزاد الاهتمام بتوحيد لـهذه المصطلحات من أجل تحسين عملية التواصل بين الباحثين.
ولعل أولى مظاهر الإرهاصات في علم المصطلح أو المصطلحية تتجلى في أول خطوة جدية ظهرت مع ظهور معجم شلومان schlammen المصور للمصطلحات التقنية A.schammans illustrated technical vocabularies. في اللغة الإنجليزية، وهو المؤلف الذي ظهر في 16 مجلداً وبست لغات بين عامي 1906 و1928 ـ 53.
وبالفعل، فقد أفاد هذا المعجم الباحثين كثيراً وأغنى مجال المصطلحية لا سيما في طريقة ترتيب المواد التي تمت على أساس المفاهيم، وأوضح مدلول المصطلح، كوعاء يوضع فيه مضمون من المضامين وأداة تحمل رسالة جد خطيرة، تسهم في تطور العلم والمعرفة النظرية منها والتطبيقية على
امتداد الحضارات المختلفة والأنساق الفكرية المتعددة والعقائد والمذهبات المتميزة 54.
ودائماً في مساق التأريخ لعلم المصطلح، يجدر بنا القول إن العرب هم كذلك لـهم باعهم في مجال التأليف في المصطلحية من مثل كتاب (التعريفات) للشريف الجرجاني و(مفاتيح العلوم) للخوارزمي، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.
في العصر الحديث يجدر التنويه بالمجهودات المصطلحية التي قام بها بعض العلماء والتي قامت وتقوم بها المجامع العربية مثل: ما ذكره الباحث رشاد الحمزاوي في منهجية التنميط (المبادئ والتطبيقات) بحيث اشترط في المنهجية وفرة قائمة المصادر والمراجع، ثم ذكر الاطراد واليسر في التداول والملاءمة أي عدم التداخل ثم تحدث عن الاشتقاق ودعا إلى تجنب الغرابة. وفي سياق التنميط الكمي فقد صوره في أربع نقاط هي: الشيوع، ويسر التداول، والملائمة، والحوافز 55.
ومن جملة مجامع اللغة العربية نذكر المجمع المصري 1932 والمجمع السوري 1979 والمجمع العراقي 1937 والمجمع الأردني 1976 والمجمع الهندي 1976 فضلاً عن بعض الهيئات التي أسست في خدمة المصطلح مثل: مكتب تنسيق التعريف بالرباط 1969 ومعهد العلوم اللسانية والصوتية بجامعة الجزائر 1966.
أما بنوك المعلومات فنذكر من بينها البنك التابع للمجموعة الاقتصادية الأوروبية Eurodicaution وبنك مكتب اللغة الفرنسية b.t.q الكائن بكندا وبنك Normoterm التابع لمؤسسة afnor وبنك terminum الكندي وبنك
Le xar 56 .
ولا يقتصر الأمر على مجهودات البنوك والمجامع بل تعداها إلى بعض المنظمات من مثل: المنظمة الدوليّة للتقييس I.S.O كلجنة تقنية خاصة تحمل رقم 37 وهي المنظمة التي أسهمت في إرساء هذا العلم وأثرت مجال المعجمات. ومنذ سنة 1951 قامت لجنة المصطلحات بالمنظمة الدولية للمواصفات القياسية بمتابعة العمل في وضع الأسس والتنسيق بين الجهود.؟
كما يبدو جلياً تتبع بعض الهيئات لقضايا المصطلح عالمياً كما هو الحال لدى الاتحاد الدولي لعلم اللغة التطبيقي الذي أرسى دعائم لجنة خاصة بالمصطلحية تضم كثيراً من المتخصصين، حيث عقدت مؤتمرها الأول مرة في كندا عام 1978، تناول فيها أعضاؤها نظرية علم المصطلح وتعليم المصطلحات 57.
وبما أن العمل قد بدأ، كان جد الجاد من رجال العلم واللغة هو الذي سد المسدّ فأغنى اللغة وأثرى الثقافة وفتح الباب عريضاً للتأليف والكشف والإبداع في مؤتمرات أخرى دولية في علم المصطلح عقدت والتي اهتم فيها أصحابها بالأسس المنهجية لعمل المصطلحات في دول العالم المختلفة مع بيان القضايا اللغوية من ذلك، ومنها قضايا التجديد المعجمي في المصطلحات.
في ضوء كل ما سبق حول المصطلحية أو علم المصطلح، يتجلى للرائي أن أولى المنطلقات التي يستوجب عليه الشروع فيها بخصوص هذا الحقل هو تبيان القواعد العامة في صياغة المصطلحات العلمية والفنية، ثم تأتي المرحلة الموالية، وهي البحث في القواعد الأساسية المتحكمة في صياغة المصطلح ضمن اللغة المحددة.
وبناءً على ذلك، يقع استقراء الآليات التي تتوافر في بنية اللغة العربية ويسمح لـها بتوليد الألفاظ وتركيب المصطلحات مع مقارنتها بالآليات التي تتضمنها اللغات الأخرى لا سيما تلك التي يأخذ عنها اللسان العربي اليوم أغلب المصطلحات المستحدثة بحكم الثورة المعرفية العالمية.
وفي مرحلة أخرى يأتي مجال بحثنا في آليات صياغة المصطلح. مع العلم، أن لصياغة المصطلح أي مصطلح آليات تتبع سبلاً من الصيغ وقوالب من البناء هي التي توجهها معايير تتصل بموازين الكلمة وتركيبتها المقطعية وانتظامها الصوتي. وبناءً على ذلك، خلص النقاد والمختصون في مجال المصطلحية إلى أن المصطلح مثلاً في مجال النقد يعتمد على النقل والتوليد وعلى استخلاص الاسم من الاسم، ولاسيما عن طريق قالب المصدر الصناعي، كما يعتمد على كل مراتب التجريد الاصطلاحي، مرة بالامتثال إلى تتابعها الطبيعي، ومرة أخرى بالقفز على انتظامها 58.
في ضوء ما سبق، يتضح أن بين المصطلح والمصطلحية صلة وشيجة وترابطاً محكماً، ذلك أن المصطلح الذي نعني فيما نعني أن يكون أداة تفكير في كل علم وفن ووسيلة إيصال في مجال التعليم والبحث والتأثير. والحقل المصطلحي أو علم المصطلح هو المجال الاشتغالي للمصصلح أي الخلفية الابستيمية التي تستمد منها المصطلحات أصولها وتتحدث ضمن إطارها ولكل مصطلح مرجعيته، أو ما يسمَّى بمرجع المصطلح59. بمعنى الحقل المعرفي الذي يعبر المصطلح عن بعض جوانبه.
وتوكيداً لـهذه المنطلقات التي سلمنا بها في مجال علم المصطلحات والمنبثقة من البحوث اللغوية الأساسية، يمكننا إيجاز خصائص المصطلحية فيما يأتي 60:
1 ـ إن منطلق العمل في مجال المصطلحية هو تحديد المفاهيم تحديداً دقيقاً ومحاولة إيجاد المصطلحات الدالة عليها، ثم تقنين المصطلحات في ضوء المفاهيم العملية النابعة من طبيعة الموضوع نفسه.
2 ـ اقتصار علم المصطلح على المجال البحثي في المفردات على خلاف علم اللغة الذي يبحث في مجالات بناء الجمل والأصوات.
3 ـ علم المصطلح أو المصطلحية منطلقه تزامني Synchronic وهو يبحث في جمل الحالة للمفهوم.
4 ـ تخضع المصطلحات لمبدأ الاتفاق، ويختص مجال المصطلحية بمجال تكوين هذه المصطلحات وتوحيدها وجعلها مواكبة للمسميات.
5 ـ يتجاوز علم المصطلح الوصفية إلى المعيارية على خلاف علم اللغة.
6 ـ علم المصطلح جزء من التنمية اللغوية، ومهمة علم المصطلح في هذا السياق إيجاد الوسائل الأساسية للوصول باللغات الوطنية الكبرى على مستوى التعبير الكامل عن حضارة العصر وعلومه.
7 ـ اعتماد علم المصطلح على الكلمة المكتوبة على خلاف البحث اللغوي الذي يعتمد على المنطوق.
8 ـ يعتمد علم المصطلح على التوحيد المعياري واختيار المصطلح المناسب للمفهوم الأنسب.
9 ـ علم المصطلح ذو أفق عالمي مثل علم اللغة بصفة عامة، ويتطلب التوحيد المعياري للمصطلحات أسساً ونظرية عامة.
10 ـ يتطلب علم المصطلح التعرض للمصطلحات في مجالات محددة.
11ـ علم المصطلح حقل لـه وشائح بشتى العلوم.
تابع تكملة البحث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق